القائمة الرئيسية

الصفحات

قصة كريمة ياقوت الطفلة



  كانت كريمة ياقوت الطفلة التي تُبهج البيت كله بابتسامتها الهادئة وصوتها وهي تردد آيات من القرآن. رغم صغر سنها، كان لديها حضور مختلف. كل من زار منزلهم تحدّث عن نور في وجهها وصوت خاشع حين تقرأ. كانت تذهب للمدرسة في الصباح وتعود حاملة دفاترها الصغيرة، تساعد أمها في ترتيب البيت وتجلس بجوار والدها لتراجعه ما حفظته من القرآن. لم تكن تشبه بنات جيلها في أي شيء، فبينما كنّ منشغلات بالهواتف والرسوم المتحركة، كانت هي تسأل عن قصص الأنبياء وتبحث عن معاني الآيات.  في ظهيرة أحد الأيام، وبينما كانت الشمس في ذروتها، قررت الأم أن تخرج برفقة بناتها الكبيرات لشراء بعض الحاجيات. تركت كريمة وحدها في المنزل لبضع دقائق فقط، كانت هادئة جدًا ومعتادة على الجلوس وحدها دون أن تثير أي قلق. قالت لها الأم قبل أن تغلق الباب: “قريبًا سأعود، رتّبي كتبك وراجعي سورة الرحمن.” وأغلقت الباب. لم تكن تعلم أن تلك ستكون آخر مرة تسمع فيها صوت ابنتها الحبيبة داخل البيت.


مرت نصف ساعة، ثم ساعة، ثم عادت الأم للمنزل ومعها بناتها، فتحن الباب ولم يكن هناك أي صوت. نادين على كريمة، لكنها لم ترد. اعتقدن في البداية أنها نائمة، ولكن حين دخلن غرفتها لم يجدنها. شعرت الأم بارتباك غريب، فكل شيء في البيت في مكانه، لا آثار لعبث أو سرقة، ولكن كريمة ليست هناك. بدأت الدقائق تمر كالسكاكين على قلب الأم، وكلما مرت ثانية دون أن تعثر على ابنتها، زاد الخوف حتى تحوّل إلى ذعر.   

لمتابعة القراءة اضغط على التالى.

   بدأت العائلة تبحث في كل زاوية، في السطح، بين الغرف، تحت الأسرة، لم يكن هناك أثر. الجيران بدؤوا يساعدونهم، وخرج الرجال للبحث في الشارع والمناطق القريبة، بينما ظلت الأم واقفة في الصالة تبكي بصمت ويدها على قلبها كأنها تحاول منع انهيار ما من الداخل. تم إبلاغ الشرطة التي حضرت فورًا، وبدأت التحقيقات وسط أجواء مشحونة بالتوتر والحيرة. لم يكن في الحي أي كاميرات مراقبة توضح ما حدث، ولم يبلغ أحد عن أي حركة مريبة.

مرّ اليوم الأول وكريمة لم تظهر. وبدأت الأخبار تنتشر في المنطقة، ثم في وسائل الإعلام المحلية. كانت القضية غريبة جدًا، لا اختطاف معلن، ولا دليل، ولا طلب فدية. فقط طفلة اختفت داخل بيتها في وضح النهار. وجه الأب تغيّر كليًا، الرجل الذي كان لا يُفارق المسجد أصبح لا يغادر قسم الشرطة والمستشفيات. أما الأم فدخلت في صمت طويل لا تكسر حدّته إلا بكلمات مكسورة تدعو الله أن تعود طفلتها، ولو ميتة، فقط لتدفنها بيديها. 

 في اليوم الرابع، تلقى الأب اتصالًا من أحد رجال الأمن. تم العثور على طفلة مطابقة لوصف كريمة في مستشفى مبارك الكبير. هرع الأب ويده ترتجف إلى هناك، لكن المفاجأة كانت أقسى من أن يحتملها قلب بشر. نعم، هي كريمة، لكنها لم تكن كما كانت. الطفلة التي دخلت المستشفى كانت ممددة لا تتحرك، غائبة عن الوعي، وآثار كدمات واضحة على وجهها ورقبتها وذراعيها. الطبيب قال إن شخصًا مجهولًا ألقى بها أمام بوابة الطوارئ وغادر بسرعة.

جلست الأم على الأرض بجوار سريرها، تمسك يدها الصغيرة وتبكي كأن قلبها قد سُحب من جسدها. لم تستيقظ كريمة إلا بعد يومين. نظرت حولها بعينين زائغتين، ثم أجهشت بالبكاء حين رأت أمها، وقالت بصوت خافت مرتجف: “ماما ما كنتش عارفة أرجع البيت”. لم تستطع في البداية أن تحكي ما حدث، لكن كلماتها القليلة كانت كافية ليتجمّد الدم في عروق الجميع. كانت قد خُدعت من شخص غريب فتح الباب وهي تجلس تراجع القرآن، أوهمها أنه صديق والدها، وقال لها إن والدها ينتظرها أمام المسجد.  لم تشك الطفلة في البداية، خاصة أنه نطق اسم والدها الكامل، لكنها أدركت بعد دقائق أنها خُطفت. قضت يومين ونصف في مكان لا تعرفه، قالت إن الجدران كانت ضيقة والضوء خافت، ولم تكن تسمع أي صوت من الخارج. كانت تبكي طوال الوقت، ولم يُقدّم لها أي طعام إلا قليل من الماء والخبز. سألها الطبيب والمحققون إن كانت تتذكر شكل الشخص أو المكان، لكنها لم تستطع وصف شيء سوى أنه “كان مظلمًا وباردًا وصامتًا”.

 بدأت الأجهزة الأمنية بمسح كل البيوت المهجورة والمخازن والمنازل المهجورة في محيط خيطان، وجرى تحقيق موسّع، خاصة بعد أن عُثر في ثوبها على آثار مواد مهدئة. تشير الأدلة إلى أن الطفلة كانت مخدّرة أكثر من نصف الوقت، ما يجعلها غير قادرة على تذكر الأحداث بدقة. ومع ذلك، أصرّ والدها أن تُعرض على أطباء نفسيين، ورفض العودة بالحادثة إلى الظل. أراد أن يعرف من حوّل ابنته الطاهرة إلى هذا الكائن المرتجف الذي لا ينام إلا في حضن أمها ويصرخ كلما أُغلق الباب

لمتابعة القراءة اضغط على التالي .

 بدأت كريمة تستعيد وعيها تدريجيًا، لكن الأطباء أكدوا أن ما تعرّضت له ترك في نفسها أثرًا عميقًا. كانت تكره النوم، وتخشى الأماكن المغلقة، وترفض الخروج من البيت. كلما رأت رجلاً غريبًا تمسك بثياب والدها وتبكي بلا توقف. حاولت الأسرة احتواءها بكل حب، لكنها لم تعد كالسابق. الهدوء تحوّل إلى قلق، والضحكة إلى شرود، والصوت الذي كان يصدح بالقرآن لم يعد يُسمع. بقي والدها يحاول إعادتها إلى حفظها القديم، لكنه كان يشعر أن كل آية تتلوها تنزف من قلبها قبل لسانها.

مرت أشهر، والتحقيقات ما تزال مستمرة، لكن دون نتيجة واضحة. لم يُقبض على أحد، ولم تظهر معلومات جديدة، وكأن الوحش الذي خطفها اختفى تمامًا كما ظهر. لكن المدينة كلها كانت تتحدث عن الطفلة البريئة التي نجت من مصير مظلم بأعجوبة، وعن الإمام الذي لم يكفّ عن الدعاء والبحث رغم كل ما مرّ به. لم يكن سهلاً على الأسرة أن تتجاوز هذه المحنة، لكنها تمسّكت بالأمل، وعادت شيئًا فشيئًا إلى حياتها اليومية، تحاول ترميم ما تهدّم داخليًا، خاصة في قلب كريمة. 

 ذات يوم، جلس الأب قربها وسألها إن كانت تريد الذهاب للمسجد معه. نظرت إليه بصمت طويل، ثم أومأت برأسها. تلك كانت المرة الأولى التي تغادر فيها المنزل منذ الحادثة. دخلت معه المسجد، وجلست في الصف الخلفي، تسمع صوته وهو يقرأ القرآن. عادت عيناها تلمعان قليلاً، وارتسم على وجهها أثر ضوء. كان هذا اليوم بداية جديدة، ليس فقط لها، بل للعائلة كلها

 مرت سنة كاملة على الحادثة، وكريمة أصبحت أكثر هدوءًا، لكنها لم تنس ما حدث. كان والدها يقول دائمًا: “الله نجاها لسبب، وستكون يومًا ما منارة لغيرها”. وفعلاً، بدأت قصتها تُروى في المدارس والمراكز المجتمعية كرسالة وعي وتحذير. لم تعد مجرد ضحية، بل أصبحت مصدر إلهام، وصوتًا يحذّر الأطفال من الغرباء، ويحث العائلات على الانتباه لأدق التفاصيل.

وفي أحد البرامج التلفزيونية، استُضيف والد كريمة بعد أن كتب مقالًا مؤثرًا بعنوان “يوم غابت كريمة”. تحدث عن قوة ابنته، عن الألم والصمت، عن القوة التي يمنحها الإيمان، عن الأبوّة التي تُكسر وتُرمم بالدعاء. كان حديثه بسيطًا، لكنه وصل لقلوب الناس، وطلب في نهايته شيئًا واحدًا: أن لا يمر ما حدث مر الكرام، وأن نعلّم أبناءنا ألا يفتحوا الباب لأي شخص، مهما بدا مألوفًا.

 أما كريمة، فقد بدأت تحفظ من جديد، وعادت تكتب وتلوّن وتضحك، ولكن بملامح نضج مبكر لا يُشبه عمرها. كانت قد خاضت معركة لا يخوضها الكبار، وخرجت منها بنعمة الحياة. وبينما لا تزال التحقيقات مفتوحة، اختارت الأسرة أن تتجاوز ما لا يمكن تفسيره، وتترك أمره لله.



انتهت القصة، لكن جرحها لا يزول. كريمة الآن أكبر بسنة، وأثقل بذكرى لا تنسى. لكنها تمشي كل يوم إلى المدرسة، تحمل مصحفها في حقيبتها الصغيرة، وتهمس لنفسها بآية “فإن مع العسر يسرا”. لقد انتصرت، لا لأنها عادت سالمة فقط، بل لأنها لم تفقد روحها، ولم تتوقف عن الإيمان  .

تعليقات

close
التنقل السريع